سورة الأعراف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى رّبكم ولعلهم يتقون}. أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جرّبوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي والظاهر أن القائل غير المقول لهم {لم تعظون قوماً} فيكون ثلاث فرق اعتدوا وفرقة وعظت ونهت وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة غير القائلة للواعظة {لم تعظون}، وروي أنهم كانوا فرقتين فرقة عصت وفرقة نهت ووعظت وأن جماعة من العاصية قالت للواعظة على سبيل الاستهزاء {لم تعظون قوماً} قد علمتم أنتم أنّ الله {مهلكهم} أو معذبهم. قال ابن عطية: والقول الأوّل أصوب ويؤيده الضمائر في قوله {معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} فهذه المخاطبة تقتضي مخاطباً انتهى ويعني أنه لو كانت العاصية هي القائلة لقالت الواعظة {معذرة إلى ربهم ولعلهم} أو بالخطاب {معذرة إلى ربكم} ولعلكم {تتقون} ومعنى {مهلكهم} مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أو معذبهم عذاباً شديداً لتماديهم في العصيان ويحتمل أن يكون العذاب في الدنيا ويحتمل أن يكون في الآخرة وإن كانوا ثلاث فرق فالقائلة: إنما قالت ذلك حيث علموا أن الوعظ لا ينفع فيهم لكثرة تكرره عليهم وعدم قبولهم له ويحتمل أن يكونا فرقتين عاصية وطائعة وإنّ الطائعة قال بعضهم لبعض لما رأوا أنّ العاصية لا يجدي فيها الوعظ ولا يؤثر شيئاً: {لم تعظون}؟ وقرأ الجمهور {معذرة} بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي، وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ما روى عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف {معذرة} بالنصب أي وعظناهم معذرة، قال سيبويه: لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب انتهى، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل: لهم {لم تعظون} قالوا: موعظتنا معذرة، وقال أبو البقاء: من نصب فعلى المفعول له أي وعظنا للمعذرة، وقيل: هو مصدر أي نعتذر معذرة وقالهما الزمخشري.
{فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} الضمير في {نسوا} للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسياناً مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ويحتمل أن يراد به ما كان في الذكر انتهى، ولا يظهر لي هذان الاحتمالان والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت و{الذين ظلموا} هم العاصون نبّه على العلة في أخذهم وهي الظلم.
قال مجاهد: {بئيس} شديد موجع، وقال الأخفش: مهلك، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد، وابن عامر كذلك إلا أنه همز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء «أنهاكم عن قيل وقال» ويحتمل أن يكون وضع وصفاً على وزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلاً، وخرّجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد، وخرّجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعاً ثم حذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة وقرأ الحسن {بئيس} بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلا أنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل، وضعفها أبو حاتم وقال: لا وجه لها قال لأنه لا يقال مررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بيس رجلاً، قال النحاس: هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب، وقرئ بئس على وزن شهد حكاها يعقوب القارئ وعزاها أبو الفضل الرازي إلى عيسى.
وقال أبو سليمان الدمشقي أعلم أنبياء بني إسرائيل {ليبعثن} ليرسلن وليسلطن لقوله {بعثنا عليكم عباداً لنا} والضمير في {عليهم} عائد على اليهود قاله الجمهور أو {عليهم} وعلى النصارى قاله مجاهد، وقيل: نسل الممسوخين والذين بقوا منهم وقيل: يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من {يسومهم}، فقيل: بختصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة، وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، وقيل: العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قاله ابن جبير، وقال السّدّي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم، وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ولم يجب الخراج بني قط إلا موسى جباه ثلاث سنة ثم أمسك للنبي صلى الله عليه وسلم، و{سوء العذاب} الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وقيل: الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في {عليهم} عائد على أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لا يفارقهم ولما كان خبراً في زمان الرسول عليه السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبراً عن مغيب صدقاً فكان معجزاً وأما ما جاء في أتباع الدّجال أنهم هم اليهود فتسمية بما كانوا عليه إذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجال فلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية، وفي كتاب ابن عطية: ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم.
{إن ربك لسريع العقاب}. إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم.
{وإنه لغفور رحيم}. ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح.
{وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك}. أي فرقاً متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفاراً و{أمماً} حال، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم {اثنتي عشرة} و{الصالحون} من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي و{منهم قوم} دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال {ومنهم قوم} دون أولئك، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون {ذلك} بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون و{دون ذلك} ألفاظ محتملة فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يُراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك، والظاهر الاحتمال الأول لقوله {لعلهم يرجعون} إذ ظاهر قوله {وبلوناهم} إنهم القوم الذين هم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة، وقال ابن عطية: فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد به الكفرة انتهى، فإن أراد أنّ {دون} ترادف غيراً فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيراً فصحيح و{دون} ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام.
{وبلوناهم بالحسنات والسيئات}. أي بالصحة والرخاء والسعة والسيئات مقابلاتها. {لعلهم يرجعون} إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا}. أي حدث من بعد المذكورين خلف، قال الزجاج: يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف، وقال الفراء: الخلف القرن والخلف من استخلفه، وقال ثعلب: الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح. ومنه قول الشاعر:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والمثل: سكت ألفاً ونطق خلفاً أي سكت طويلاً ثم تكلّم بكلام فاسد، وعن الفرّاء: الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح. وقال الشاعر:
خلفت خلفاً ولم تدع خلفاً *** كنت بهم كان لا بك التلفا
وقد يكون في الرّدى خلف وعليه قوله:
ألا ذلك الخلف الأعور *** وفي الصالح خلف
وعلى هذا بيت حسان:
لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا *** لأوّلنا في طاعة الله تابع
{ودرسوا ما فيه} أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.
وقال مالك بن دينار رحمه الله: يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا: سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئاً كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وقوله: {إلا الحقّ} دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا {ودرسوا} معطوف على قوله {ألم يؤخذ} وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله وهذا العطف على التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله {ألم نربك فينا وليداً} وليثبت معناه قد ربّيناك ولبثت، وقال الطبري وغيره: هو معطوف على قوله {ورثوا الكتاب} وفيه بعد، وقيل هو على إضمار قد أي قد {درسوا ما فيه} وكونه معطوفاً على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل، وقرأ الجحدري {أن لا تقولوا} بتاء الخطاب، وقرأ علي والسلمي: وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله {فادارأتم} أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية، وهذه القراءة توضح أن معنى {ودرسوا ما فيه} هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل {ودرسوا ما فيه} أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس، وإنما قالوا: ربع دارس وخط دارس بمعنى داثر.
{والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون}. أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ومعنى {يتقون} محارم الله تعالى وقرأ أبو عمرو وأهل مكة {يعقلون} بالياء جرياً على الغيبة في الضمائر السابقة، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل {أفلا تعقلون} حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك.
{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحِين}. الظاهر أنّ الكتاب هو السابق ذكره في {ورثوا الكتاب} فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلك وهو مبني على المراد في قوله {خلف ورثوا}، وقيل: الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيماً لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة، وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم {يمسكون} من أمسك والجمهور {يمسكون} مشدّداً من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال:
فما تمسّك بالعهد الذي زعمت *** إلا كما يمسك الماء الغرابيل
وأمسك متعدّ قال: {ويمسك السماء أن تقع عَلى الأرض} فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّي بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون، وقرأ عبد الله والأعمش: استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله {والذين} استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكون والذين على هذا مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملاً وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في {المصلحين}، وقال الحوفي وأبو البقاء: الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو {المصلحين} وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال: زيد أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون {والذين} في موضع جرّ عطفاً على {الذين يتّقون} ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا.


النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من فم القربة والناتق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم *** طفحت عليك بناتق مذكار
وفي الحديث «عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير» الانسلاخ: التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها. الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلام وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات، وتقدّمت هذه المادة في {مكلبين} وكرّرناها لزيادة فائدة، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضياً ومضارعاً والمصدر لهثاً ولهثاً بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت، وقال غيره: العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر:
ليس الأمير بالشحيح الملحد ***
ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا: لحده اللاحد، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي، متن متانة اشتدّ وقوي، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعاً بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه قال تعالى: {أيان يبعثون} و{أيان مرساها} قال الشاعر:
أيان تقضي حاجتي أيانا *** أما ترى لفعلها إبانا
وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قيل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قوله الشاعر:
إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة *** فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل
وقال غيره:
أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا *** لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وقال ابن السّكيت: يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء، وقال الشاعر:
إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف
انتهى. وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت، وقال النضر بن شميل: التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنى وجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد، قال ابن عباس وابن زيد: هنا هم اليهود، قال الزمخشري: وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ورثوا الكتاب} التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة، وقرأ الحسن: {ورثوا} بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج {الكتاب} أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن و{عرض هذا الأدنى} هو ما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله: عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى: {ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً} والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقضٍ زائل، قال الزمخشري: وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها، ويقولون {سيغفر لنا} قطع على الله بغفران معاصيهم أي لا يؤاخدنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها، و{لنا} في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي {سيغفر} هو أي الأخذ {لنا}.
{وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه}. الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة، يقال: إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البرّ والفاجر، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات، قال السدّي: كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى. وقال الشاعر:
إذا ما صبّ في القنديل زيت *** تحوّلت القضية للمقندل
وقال آخر:
لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا *** أجدى وأنجح في الحاجات من طبق
إذا تعمم بالمنديل في طبق *** لم يخش نبوة بواب ولا غلق
ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتسلكنّ سنن من قبلكم» ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق، وقال الزمخشري: الواو للحال يعني في وإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز.
{ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يِقولوا على الله إلا الحقّ ودرسوا ما فيه}. هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على الله. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه {أن لا يقولوا على الله إلا الحقّ}، وقال بعضهم: هو قولهم {سيغفر لنا} ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره و{أن لا يقولوا} في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب، وقال الزمخشري: هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر {ميثاق الكتاب} بما تقدم ذكره كان {أن لا يقولوا} مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا نهياً، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق، وقال أيضاً: قبل ذلك {ميثاق الكتاب} يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا، رسا يرسو ثبت. الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني، وفلان حفي بي بارّ معتن. وقال الشاعر:
فلما التقينا بين السيف بيننا *** لسائلة عنا حفيّ سؤالها
وقال آخر:
سؤال حفي عن أخيه كأنه *** بذكرته وسنان أو متواسن
والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف.
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم} أي جذبنا الجبل بشدة و{فوقهم} حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم، وقال الحوفي وأبو البقاء: {فوقهم} ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن {نتقنا} معنى فعل يمكن أن يعمل في {فوقهم} أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله
{ورفعنا فوقهم الطور} والجملة من قوله {كأنه ظلة} في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد، وقيل: اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل: {كأنه ظلة} أي كأنه على عمد وقرئ طلة بالطاء من أطل عليه إذ أشرف {وظنوا} هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين، وقال المفسّرون: معناه أيقنوا، وقال الزمخشري: علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة، فإنه يكون بمعنى الإتقان، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله {ورفعنا فوقكم الطور} في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري: هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديّاً يقرأ التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة.
{خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}. قرأ الأعمش {واذكروا} بالتشديد من الإذكار، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرئ وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة.
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وواحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه {أشهدهم على أنفسهم} وقررهم وقال {ألست بربكم} وكأنهم {قالوا بلى} أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب ونظيره قول الله عز وجل
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيَكون} {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قَالتا آتينا طائعين} وقول الشاعر:
إذا قالت الانساع للبطن الحقي *** تقول له ريح الصّبا قرقار
ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة وتقديره إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم، (فإن قلت): بنو آدم وذرياتهم من هم، قلت: عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا: {عزير ابن الله} وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله {واسألهم عن القرية} {وإذ قالت أمة منهم} {وإذ تأذن ربّك} {وإذ نتقنا الجبل فوقهم} {واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه، قال ابن عطية: قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول {أخذ} ذرياتهم قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفاً لفهم المعنى و{ذرّياتهم} بدل من ضمير {ظهورهم} كما أنّ {من ظهورهم} بدل من قوله {بني آدم} والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال: {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنى بالجزم {وأشهدهم على أنفسهم} بما نصب لهم من الأدلة قائلاً {ألست بربكم قالوا بلى}، وقرأ العربيان ونافع: {ذرياتهم} بالجمع وتقدّم إعرابه، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفرداً بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولاً بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم.
{شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}. أي قال الله شهدنا عليكم أو قال الله والملائكة قاله السدّي، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى عن هذا عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبيّة.
{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم}. المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما: كنا غافلين والأخرى: كنا أتباعاً لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج، وقرأ أبو عمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب.
{أفتهلكنا بما فعل المبطلون}. هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم. {وكذلك نفصل الآيات} أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلّة التوحيد وبراهينه. {ولعلهم يرجعون} عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي الله تعالى.
{واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} أي {واتلُ} على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته {فانسلخ منه


{قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله}. قال ابن عباس: قال أهل مكة ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري وتربح وبالأرض التي تجدب فترحل عنها إلى ما أخصب فنزلت، وقيل لما رجع من غزوة المصطلق جاءت ريح في الطريق فأخبرت بموت رفاعة وكان فيه غيظ المنافقين، ثم قال انظروا أين ناقتي، فقال عبد الله بن أبيّ: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته، فقال عليه السلام إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فردوها على فنزلت، ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جداً وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية وانتفاء عن ما يختص بالربوبية من القدرة وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر فكيف أملك علم الغيب كما قال في سورة يونس {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله لكل أمة أجل} وقدم هنا النفع على الضرّ لأنه تقدم من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فقدّم الهداية على الضلال وبعده لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء فناسب تقديم النفع وقدم الضرّ في يونس على الأصل لأن العبادة لله تكون خوفاً من عقابه أولاً ثم طمعاً في ثوابه ولذلك قال {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} فإذا تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه وأيضاً ففي يونس موافقة ما قبلها ففيها {ما لا يضرّهم ولا ينفعهم} {ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} لأنه موصول بقوله {ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها وفي يونس {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} وتقدمه {ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين} وفي الأنبياء قال {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم} وتقدمه قول الكفار لإبراهيم في المحاجّة {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} وفي الفرقان {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم} وتقدمه {ألم ترى إلى ربك كيف مدّ الظل} ونعم كثيرة وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم وساطع براهينه والاستثناء متصل أي إلا ما شاء الله من تمكيني منه فإني أملكه وذلك بمشيئة الله، وقال ابن عطية: وهذا الاستثناء منقطع انتهى، ولا حاجة لدعوى الانقطاع مع إمكان الاتصال.
{ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضارّ حتى لا يمسّني شيء منها وظاهر قوله {ولو كنت أعلم الغيب} انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب كما روي عنه لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وأنهم بتصفية نفوسهم يحصل لها اطلاع على المغيبات وإخبار بالكوائن التي تحدث، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصاً في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمّخ بالنجاسة يظلّ دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسته ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح وقد خصص قوم هذا العموم فحكى مكي عن ابن عباس: لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة، وقال قوم: أوقات النصر لتوخيتها، وقال مجاهد وابن جريج: لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح، وقيل: ولو كنت أعلم وقت الساعة لأخبرتكم حتى توقنوا، وقيل: ولو كنت أعلم الكتب المنزلة لاستكثرت من الوحي، وقيل: ولو كنت أعلم ما يريده الله مني قبل أن يعرفنيه لفعلته، وينبغي أن تجعل هذه الأقوال وما أشبهها مثلاً لا تخصيصات لعموم الغيب والظاهر أن قوله {وما مسني السوء} معطوف على قوله {لاستكثرت من الخير} فهو من جواب {لو} ويوضح ذلك أنه تقدم قوله {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً} فقابل النفع بقوله {لاستكثرت من الخير} وقابل الضرّ بقوله {وما مسني السوء} ولأنّ المترتب على تقدير علم الغيب كلاهما وهما اجتلاب النفع واجتناب الضرّ ولم نصحب ما النافية جواب لو لأن الفصيح أن لا يصحبهما كما في قوله تعالى
{ولو سمعوا ما استجابوا لكم} والظاهر عموم الخبر وعدم تعيين {السوء}، وقيل: السوء تكذيبهم له مع أنه كان يدعي الأمين، وقيل: الجدب، وقيل: الموت، وقيل: الغلبة عند اللقاء، وقيل: الخسارة في التجارة، وقال ابن عباس: الفقر وينبغي أن تجعل هذه الأقوال خرجت على سبيل التمثيل لا الحصر فإن الظاهر في الغيب الخير والسوء عدم التعيين، وقيل: ثم الكلام عند قوله {لاستكثرت من الخير} ثم أخبر أنه ما مسّه السّوء وهو الجنون الذي رموه به، وقال مؤرّج السدوسي: {السوء} الجنون بلغة هذيل وهذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لو {لاستكثرت من الخير} فقط وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران لا أحدهما فيكون إذ ذاك جواباً قاصراً.
{إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} لما نفى عن نفسه علم الغيب أخبر بما بعث به من النذارة ومتعلقها المخوفات والبشارة ومتعلقها بالمحبوبات والظاهرة تعلقهما بالمؤمنين لأن منفعتهما معاً وجدوا هما لا يحصل إلا لهم وقال تعالى: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} وقيل معنى {لقوم يؤمنون} يطلب منهم الإيمان ويدعون إليه وهؤلاء الناس أجمع، وقيل: أخبر أنه نذير وتمّ الكلام ومعناه أنه نذير للعالم كلهم ثم أخبر أنه بشير للمؤمنين به فهو وعد لمن حصل له الإيمان، وقيل حذف متعلق النذارة ودلّ على حذفه إثبات مقابله والتقدير نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون كما حذف المعطوف في قوله {سرابيل تقيكم الحرّ} أي والبرد وبدأ بالنذارة لأن السائلين عن الساعة كانوا كفاراً أما مشركو قريش وأما اليهود فكان الاهتمام بذكر الوصف من قوله {إن أنا إلا نذير} آكد وأولى بالتقديم والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6